أن تتزوج بعدي بابنة أُختي أُمامة، فإنها تكون لُولدي مثلي، فإن الرجال لا بدَّ لهم من النساء.
ثم قالت: أُوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، فإنهم عدوي وعدو رسول الله، ولا تترك أن يصلي عليَّ أحد منهم ولا من أتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار(روضة الواعظين).
الوصية بصورة أُخرى:
قالت: يا بن العم! إذا قضيت نحبي فغسِّلني ولا تكشف عني، فإني طاهرة مطهرة، وحنِّطني بفاضل حنوط أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وصَلِّ أمير المؤمنين عليِّ، وليصلِّ معك الأدنى فالأدنى من أهل بيتي وادفني ليلاً لا نهاراً، وسراً لا جهاراً، وعَفِّ موضع قبري، ولا تُشهد جنازتي أحداً ممن ظلمني.
يا بن العم! أنا أعلم أنك لا تقدر على عدم التزويج من بعدي فإن أنت تزوَّجت امرأة اجعل لها يوماً وليلة، واجعل لأولادي يوماً وليلة.
يا أبا الحسن! ولا تُصح في وجههما فيصبحْان يتيمين غريبين منكسرين، فإنهما بالأمس فقدا جدَّهما واليوم يفقدان أُمَّهما، فالويل لأُمَّة تقتلهما وتبغضهما، ثم أنشأتْ تقول:
ابكنــــي إن بكـــــيت يا خير هادي وأســــــــبل الدمع فهو يوم الفـراق
يا قرين البــــــــــتول أوصـــــيك با لنـسل فــــــقد أصبح حليف اشتياق
ابكني وابك لليتامى، ولا تنس قتيل العدى بطَف العراق
هذه بعض وصايا السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) التي يتجلى فيها مدى تألمها من ذلك المجتمع، ومدى تذمُّرها من الجفاة القساة.
إنها اختارت أن تسجِّل اسمها في طليعة أسماء المضطهدين المحرومين وأن تدوِّن اسمها في سجلِّ المظلومين، حتى يكون اسمها رمزاً للمظلومية والحرمان، وليكون تشييع جثمانها تعبيراً عن سخطها على السلطة وعلى كل من أيَّد تلك السلطة واعترف بها وتعاون معها.
وإعلاناً عن غضبها على كل مَن وقف من الزهراء موقفاً سلبياً.
أوصَت أن يُشيَّع جثمانها ليلاً وتجري مراسيم التشييع من التغسيل والتكفين والصلاة والدفن في جوٍّ من الكتمان.
وأن لا يشترك في تشييع جنازتها إلاَّ أفراد لم تتلوَّث ضمائرهم بالانحراف ولم تسوّد صفحاتهم بالانجراف.
أفراد كان موقفهم تجاه السيدة فاطمة (خلال فترة الانقلاب) موقفاً إيجابياً مشرفاً.
وَمَاتَتِ السَيّدة فَاطِمَة
ارتجت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء، ودهش الناس كيوم قُبض فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصاح أهل المدينة صيحة واحدة، واجتمعت نساء أهل المدينة في دار السيدة فاطمة، فرأينها مسجّاة في حجرتها، وحولها أيتامها يبكون على أُمهم التي فقدوها في عنفوان شبابها، صرخت النساء صرخة كادت المدينة أن تتزعزع من صراخهن وهن يصحن: يا سيدتاه، يا بنت رسول الله.
وأقبل الناس مسرعين وازدحموا مثل عُرف الفرس على باب البيت، وعلي جالس، والحسن والحسين بين يديه يبكيان، فبكى الناس لبكائهما.
وجاءت عائشة لتدخل فقالت أسماء: لا تدخلي. فكلَّمت عائشة أبا بكر فقالت: إن الخثعمية تحول بيننا وبين ابنة رسول الله وقد جعلت لها هودج العروس، فجاء أبو بكر فوقف على الباب فقال: يا أسماء: إن فاطمة أمرتني أن لا يدخل عليها أحد، وأريتُها هذا الذي صنعت وهي حية، فأمرتني أن أصنع لها ذلك. قال أبو بكر: فاصنعي ما أَمَرَتْكِ. ثم انصرف.
وأقبل الشيخان إلى علي يعزّيانه، ويقولان له: يا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله.
كان الناس ينتظرون خروج الجنازة فأمر علي (عليه السلام) أبا ذر فنادى: انصرفوا، فإن ابنة رسول الله قد أُخِّر إخراجها في هذه العشية.
وهكذا تفرّق الناس، وهم يظنون أن الجنازة تشيّع صباح غدٍ، إذ أنّ السيدة فاطمة الزهراء فارقت الحياة بعد صلاة العصر، أو أوائل الليل.
مضى من الليل شطره، وهدأت الأصوات، ونامت العيون، ثم قام الإِمام لينفِّذ وصايا السيدة فاطمة.
حمل ذاك الجسد النحيف الذي أذابته المصائب حتى صار كالهلال.
حمل ذلك البدن الطاهر كي يُجري عليه مراسم السُّنة الإِسلامية.
وضع ذلك الجثمان المطهّر على المغتسل، ولم يجرّد فاطمة من ثيابها تلبيةً لطلبها، إذ لا حاجة إلى نزع الثوب عن ذلك البدن الذي طهره الله تطهيراً، ويكفي صب الماء على البدن، كما صنع ذلك في تغسيل النبي الطاهر.
وهناك أسماء بنت عميس، تلك السيدة الوفية الطيبة التي استقامت على علاقاتها الحسنة مع أهل البيت، فهي تناول عليّاً الماء لتغسيل السيدة فاطمة.
يقول الإِمام الحسين (عليه السلام): غسَّلها ثلاثاً وخمساً، وجعل في الغسلة الأخيرة شيئاً من الكافور، وأشعرها مذراً سابغاً دون الكفن، وهو يقول:
اللهم إنها أَمَتك، وابنة رسولك وصفيك، وخيرتك من خلقك اللهم لقِّنها حجّتها، وأعظم برهانها، وأعل درجتها، واجمع بينها وبين أبيها محمد (صلى الله عليه وآله).
وبعد الفراغ من التغسيل حملها ووضعها على أكفانها، ثم نشّفها بالبردة التي نشف بها رسول الله(4) وحنَّطها بحنوط السماء الذي يمتاز عن حنوط الدنيا.
ثم لفَّها في أكفانها، وكفَّنها في سبعة أثواب.
وإنما قام علي (عليه السلام) بتغسيلها، ولم يكلف أحداً من النساء بذلك لأسباب:
1- تلبية لطلبها، وتنفيذاً لوصيتها.
2- إثباتاًَ لعصمتها وطهارتها، فإن تغسيل الميت يعتبر تطهيراً له، وأما بالنسبة للمعصومين فلا يسمح للأيدي الخاطئة أن تمدّ لتغسيلهم، وإنما هو من واجبات المعصوم الخاصة أن يقوم بعملية التطهير، وقد مرّ عليك الحديث عن الإِمام الصادق (عليه السلام) حول كونها صدّيقة، وأن الصدّيقة لا يغسلها إلاَّ صدّيق.
فكان الغرض من تلك الوصية وتنفيذها إثبات عصمتها، والتنويه بذلك في شتى المجالات وكافة المناسبات.
ويصرّح الإِمام (عليه السلام) بذلك حيث يقول: فغسّلتها في قميصها ولم أكشفه عنها فوالله لقد كانت ميمونة طاهرة مطهرة.
وهناك أحاديث شاذة بلغت القمة في الشذوذ، فمنها الحديث الذي يذكره الدولابي وغيره أن الزهراء (عليها السلام) اغتسلت قبل وفاتها، وأوصت أن لا يغسلها أحد بعد موتها، وأنها دفنت بلا تغسيل!!
ويأْتي بعض علمائنا القدامى ليصحح هذا الخطأْ فيقول: فلعل ذلك كان من خصائصها (عليها السلام).
أقول: وهل تثبت أمثال هذه الأمور بـ(لعل) و(ليت) وخاصة مع تصريح الروايات المعتبرة وتواتر الأحاديث الصحيحة: أن عليّاً هو الذي تولّى تغسيلها؟ أضف إلى ذلك: إن تغسيل الميت المسلم واجب شرعاً.
رأى الإِمام أن يتامى فاطمة ينظرون إلى أُمّهم البارّة الحانية، وهي تلفّ في أثواب الكفن، إنها لحظة فريدة في الحياة، لا يستطيع القلم وصفها، إنها لحظة يهيج فيها الشوق الممزوج بالحزن، إنه الوداع الأخير الأخير!!
هاجت عواطف الأب العطوف على أطفاله المنكسرة قلوبهم، فلم يعقد الخيوط على الكفن، بل نادى - بصوت مختنق بالبكاء -: يا حسن يا حسين يا زينب يا أُم كلثوم هلمّوا وتزوّدوا من أُمّكم، فهذا الفراق، واللقاء في الجنة!!
كان الأطفال ينتظرون هذه الفرصة وهذا السماح لهم لكي يودّعوا تلك الحوراء، ويعبّروا عن آلامهم وأصواتهم ودموعهم المكبوتة المحبوسة، فأقبلوا مسرعين، وجعلوا يتساقطون على ذلك الجثمان الطاهر كما يتساقط الفَراش على السراج.
كانوا يبكون بأصوات خافتة، ويغسلون كفن أُمّهم الحانية بالدموع، فتجففها الآهات والزفرات.
كان المنظر مشجياً مثيراً للحزن، فالقلوب ملتهبة، والأحاسيس مشتعلة والعواطف هائجة، والأحزان ثائرة.
وهنا حدث شيء يعجز القلم عن تحليله وشرحه، وينهار أمامه قانون الطبيعة، ويأْتي دور ما وراء الطبيعة، فالقضية عجيبة في حد ذاتها، لأنها تحدّت الطبيعة والعادة:
يقول علي (عليه السلام) وهو إذ ذاك يشاطر أيتام فاطمة في بكائهم وآلامهم.
يقول: (أُشهد الله أنها حنَّت وأنَّت وأخرجت يديها من الكفن، وضمَّتهما إلى صدرها مليّاً).
إن كانت حياة السيدة فاطمة الزهراء قد تعطّلت فإن أحاسيسها وإدراكها لم تتعطل، وإن كانت روحها الطاهرة قد فارقت جسدها المطهر فإن علاقة الروح لم تنقطع عن البدن بعد، فلروحها القوية أن تتصرف في جسمها في ظروف خاصة وموارد معينة.
كان ذلك المنظر العجيب مثيراً لأهل السماوات الذين كانت أبصارهم شاخصة نحو تلك النقطة من بيت علي (عليه السلام) فلا عجب إذا ضجت الملائكة وشاركت أهل البيت في بكائهم، فلا غرو إذا سمع الإِمام علي صوت أحدهم يهتف قائلاً: يا علي! ارفعهما فلقد أبكيا ملائكة السماوات وقد اشتاق الحبيب إلى حبيبه.
يتقدم الإِمام ليرفع طفليه عن صدر أُمهما، وعيناه تذرفان بالدموع.
وانتهت مراسيم التكفين والتحنيط، وجاء دور الصلاة عليها ثم الدفن، لقد حضر الأفراد الذين تقرر أن يشتركوا في تشييع الجثمان ومراسم الصلاة وغيرها، وهم الذين لم يظلموا فاطمة، ولم يسكتوا أمام تلك الأحداث، ولم يكن موقفهم موقف المتفرج الذي لم يتأثر بالحوادث.
لقد حضروا في تلك الساعة المتأخرة من تلك الليلة خائفين مترقبين، إذ قد تقرر إجراء تلك المراسم ليلاً وسرّاً، واستغلال ظلمة الليل مع رعاية الهدوء والسكوت، كل ذلك لأجل تنفيذ وصايا السيدة فاطمة الحكيمة.
لقد حضروا، وهم: سلمان، عمار بن ياسر، أبو ذر الغفاري، المقداد، حذيفة، عبد الله بن مسعود، العباس بن عبد المطلب، الفضل بن العباس، عقيل، الزبير، بريدة، ونفر من بني هاشم، وشيّعوا جثمان فاطمة الزهراء البنت الوحيدة التي تركها الرسول الأقدس بين أُمته، وكأنها امرأة غريبة خاملة فقيرة في المدينة، لا يعرفها أحد وكأنها لم تكن المنزلة الرفيعة والشخصية المثالية.
هؤلاء هم المشتركون في تشييع جنازة سيدة نساء العالمين.
وتقدم الإِمام علي (عليه السلام) وصلَّى بهم على حبيبة رسول الله، قائلاً: اللهم إني راضٍ عن ابنة نبيك، اللهم إنها قد أوحشت فآنسها، اللهم إنها قد هُجِرت فَصِلها، اللهم إنها قد ظُلِمت فاحكم لها وأنت خير الحاكمين.
ثم صلَّى ركعتين ورفع يديه إلى السماء فنادى: هذه بنت نبيّك فاطمة أخرجتها من الظلمات إلى النور. فأضاءت الأرض ميلاً في ميل.
صلى الإِمام علي (عليه السلام) عليها، إذ أنها كانت معصومة، فيجب أن يصلي عليها المعصوم، فالصلاة على الميت دعاء له بالرحمة. وأما بالنسبة للمعصوم فالدعاء له أي الصلاة على جثمانه فهو من واجب المعصوم.
هذا من الناحية الشرعية، وأما من ناحية العقل والحكمة فإن السيدة فاطمة الزهراء مع جلالة قدرها، وعظم شأْنها ذهبت إلى دار رئيس الدولة يومذاك مطالبة بحقها، فكان موقف الرئيس معها كما عرفت.
ثم حضرت في المسجد وخطبت تلك الخطبة فلم تجد الإِسعاف لا من الحاضرين في المسجد، ولا من رئيس الدولة، وقد مرّ عليك أن عليّاً (عليه السلام) كان يحملها إلى بيوت المهاجرين والأنصار يستنجدهم لنصرة الزهراء فلم يجد منهم إلاَّ الجفاء.