الحياة ميدان العمل وميدان الاختبار ويختبر الله عباده بالبلايا والمصائب ليعلم هل يصبرون أم يجزعون ويقنطون من رحمته ويختبرهم بالنعم ليعلم هل يشكرون أم يبطرون ويكفرون وعلى ذلك يكون الثواب أو العقاب.
فيقول الحق - تبارك وتعالى - فى كتابه العزيز : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } الأنبياء35
وقوله - جل وعلا - : {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }الأنفال37
وقوله - سبحانه : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ }محمد31
وقوله أيضاً - عز وجل : ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) 140 ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) 141 ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) 142
وليمحص الله اللذين آمنوا أى يطهرهم من ذنوبهم ويمحق الكافرين أى يستأصلهم بالهلاك فهذه نتيجة الشدائد تفيد من صبر عليها ورجع إلى ربه وتضر من غفل عن سنة الله فى خلقه .. وقد وردت آيات كريمة فى أن المراد بالابتلاء هى قصد الاختبار منها قوله سبحاه وتعالى : ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُون ) الفرقان20 وقوله فى شأن النعم التى يسبغها على عباده فيتطاولون بها ويدعون أنها من حسن عملهم فيرد قائلاً -سبحانه : ( بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) الزمر49
كما أخبرنا الحبيب - اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم - : ( قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين وما يصرفه ذلك على دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ) فإن الابتلاء بالشدائد ممحصاً للذنوب ومميزاً للخبيث من الطيب كما إن الشدائد تهذب النفوس وتصلح من فسادها وقد رأينا إناساً فى غاية الغفلة والإعراض فحين أصابهم مرض خفيف تنبهوا ولجأوا إلى ربهم واظهروا الندم على ما فرطوا فى جنب الله وعلى ما اقترفوا من جرائم فى حق أنفسهم ..
ولربما مرض بسيط يصيب الإنسان أجدى بكثير من الكلمات الواعظة لأنه ربما يسمعها بأُذُنه فحسب أما ما يصيبه فى نفسه أو أهله أو ماله فانه يسمعه بقلبه وجميع جوارحه فيكون له الأثر الأكبر فى عودته إلى الخالق تبارك وتعالى ..
والنعمة قد تطغى ولكنها إذا ذهبت نبهت المشاعر وأزاحت الغفلة عن القلوب فإذا عادت بعد ذلك خيف من فقدانها ثانياً فيقوم العبد بشكر الله عليها ، فهكذا سُنة الله فى خلقه ، فلا نتصور عالماً خالياً من النعم أو من النقم ..
ولكننا لا يجب أن ننظر إلى عالمنا على أساس انه عالم تعاسة فهذه نظرة المتشائمين اللذين لا يرون فى الحياة شيئاً جميلاً وهى نظرة اللذين لا يؤمنون بقيمة الحياة ولا بقدرة الله على التغيير والتبديل ولذلك تؤدى تلك النظرة - أول ما تؤدى - إلى القنوط واليأس من رحمة الله ، وهذا الإنسان المتشائم الذى لا ينير الإيمان بالله جوانب نفسه المظلمة هو الذى عناه القرآن الكريم فى قوله : { وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ } فصلت49 كما أن عالمنا ليس عالم ورود لا أشواك فيها ولا غدير صافٍ لا يشوبه كدر كما يتوهم بعض أصحاب الخيال .. فان توازن النفس بالإيمان بالله والتوكل عليه - سبحانه وتعالى - يؤدى إلى قبول المصيبة بصدر رحب مؤمن موقناً فى أن عِظم الثواب أكبر من عِظم المصيبة إذا صبر وأحتسب ونظر إلى جانب المصيبة المشرق .. اعلم انه تعبير غريب فلا إشراق فى مصيبة .. فمعنى مصيبة آي كارثة موحشة مظلمة .. ولكننا إذا تلقينا المصيبة بالصبر والاحتساب وندرك معنى قوله تعالى : ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ) البقرة 156 ومعنى ( إِنَّا ) أي كل شىء راجع لمولاه وخالقه حتى أنفسنا فلا يصح لنا الاعتراض أو القنوط .. ولكننا نحمد الله عليها ونشكره -سبحانه -على انه قد اختارنا نحن بتلك المصيبة والتى تحمل فى باطنها هدية كبيرة من الحسنات نجدها محفوظةً لنا فى الآخرة : { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ } الشعراء88 ونرى أثرها فى الدنيا ( هذا إذا صبرنا ولم نقنط ) وفي الحديث " من استرجع عند المصيبة آجره الله فيها وأخلف الله عليه خيرا " وفيه أن مصباح النبي صلى الله عليه وسلم طفئ فاسترجع فقالت عائشة - رضى الله عنها - : إنما هذا مصباح فقال : " كل ما أساء المؤمن فهو مصيبة " رواه أبو داود في مراسيله .
فصدقت يا حبيبى يا رسول الله فيما أخبرت .. : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير و ليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر و كان خيرا له و إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) تخريج السيوطي ، تحقيق الألباني .
اللهُم أجعلنا من الصابرين المُحتسبين عند المصائب