إن الناظر لتوجيهات الإسلام وتشريعاته وعبادته ليلحظ بكل وضوح عدم إغفال الجوانب الواقعية للإنسان بكل ظروفه وملابساته لقد راعى واقع الحياة وظروفها الأسرية و الاجتماعية والاقتصادية وما تفرضه على الإنسان من طلب المعيشة والسعى فى مناكب الأرض الذلول فلم يطلب من المسلم الانقطاع للعبادة كالرهبان فى الأديار وعرف الإسلام طبيعة الملل فى الإنسان ، فنوعها ولونها بين عبادات بدنية كالصلاة والصيام ، وأخرى مالية كالزكاة والصدقات ، وثالثة جامعة بينهما كالحج والعمرة وجعل بعضها يومياً كالصلاة وبعضها سنوياً أو موسمياً كالصيام والزكاة وبعضها مرة فى العمر كالحج ، ثم فتح الباب لمن أراد مزيداً من الخير والتقرب من الله ، فشرع التطوع بنوافل العبادات
فمن تطوع خيراً فهو خير له ) .
وراعى الإسلام الظروف الطارئة للإنسان كالسفر والمرض ونحوهما ،فشرع الرخص والتخفيفات التى يحبها الله وذلك مثل صلاة المريض قاعداً أو مضجعاً على جنب حسب استطاعته رعاية لواقع الناس وتقديرًا لظروفهم المتغيرة وتيسيرًا من الله عليهم كما قال تعالى
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) .
ومن واقعية الإسلام أنه راعى معهم سنة التدرج فيما يشرعه لهم ، إيجاباً أو تحريماً ، فنجده حين فرض الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة ، فرضها على مراحل ودرجات حتى انتهت إلى الصورة الأخيرة فالصلاة فرضت أول ما فرضت ركعتين ، ثم أقرت فى السفر على هذا العدد وزيدت فى الحضر إلى أربع ،أعنى الظهر والعصر والعشاء والصيام فرض أولاً على التخيير ، من شاء صام ، ومن شاء أفطر وفدى ، أى اطعم مسكيناً عن كل يوم يفطره كما روى ذلك البخارى عن سلمة بن الأكوع ، تفسيراً لقوله تعالى
وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خيرٌ له ، وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون) ثم أصبح الصيام فرضاً لازماً لكل صحيح مقيم لا عذر له
فمن شهد منكم الشهر فليصمه) والزكاة فرضت أولاً بمكة مطلقة غير محددة ، ولا مقيدة بنصاب ومقادير وحول ، بل تركت لضمائر المؤمنين وحاجات الجماعة والأفراد حتى فردت الزكاة ذات النصب والمقادير فى المدينة .
والمحرمات كذلك لم يأت تحريمها دفعة واحدة فقد علم الله سبحانه مدى سلطانها على الأنفس وتغلغلها فى الحياة الفردية والاجتماعية .
فليس من الحكمة فطام الناس عنها بأمر مباشر يصدر لهم ، إنما الحكمة إعدادهم نفسياً وذهنياً لتقبلها وأخذهم بقانون التدرج فى تحريمها حتى إذا جاء الأمر الحاسم كانوا سراعاً إلى تنفيذه قائلين : سمعنا وأطعنا ولعل أوضح مثل معروف فى ذلك هو تحريم الخمر على مراحل معروفة فى تاريخ التشريع الإسلامى ،حتى إذا نزلت الآيات الحاسمة فى النهى عنها من سورة المائدة وفى ختامها : (فهل أنتم منتهون) ؟ قال المؤمنون فى قوة وتصميم : انتهينا يارب .
ومن واقعية الإسلام : أنه أقر التفاوت الفطرى والعملى بين الناس فليس كل الناس فى درجة واحدة من حيث قوة الإيمان والالتزام بما أمر الله به من أوامر والانتهاء عما نهى عنه من نواه والتقيد بالمثل العليا .
ومن واقعية الإسلام : أنه راعى الظروف الاستثنائية كالحرب فأباح من أجلها ما لا يباح فى ظروف السلم كهدم المبانى أو تحريق الأشجار ونحوها ، ومثل ذلك الكذب لتضليل العدو عن حقيقة أوضاع الجيش الإسلامى وعدده وعتاده وخططه ، فإن الحرب كما جاء فى الحديث (الحرب خدعة).
والتربية الإسلامية كذلك تربية واقعية تتعامل مع الإنسان كما هو : لحماً ودماً وفكراً وشعوراً وانفعالاً ونزوعاً وروحاً وتحليقاً ولما رأى بعض الصحابة واسمه حنظلة أنه يكون مع أسرته وأهله فى حال تغاير الحال التى يكون عليها مع النبى - صلى الله عليه وسلم - من حيث الصفاء والشفافية والشعور بخشية الله تعالى ومراقبته فرأى هذا لوناً من النفاق وخرج يعدو فى الطريق وهو يقول عن نفسه : نافق حنظلة حتى انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرح له ما يحس به من تباين حاله عنده عن حاله فى البيت فأجابه الرسول بقوله :"إنكم لو بقيتم على الحال التى تكونون عليها عندى لصافحتكم الملائكة فى الطرقات ولكن يا حنظلة ، ساعة وساعة " .
إن شريعة الإسلام لم تحرم شيئاً يحتاج إليه الإنسان فى واقع حياته كما لم تبح له شيئاً يضره فى الواقع.
ولقد راعى الإسلام فطرة البشر فى الميل إلى اللهو والترويح عن النفس فرخص فى أنواع من اللهو كالسباق وألعاب الفروسية وغيرها ، إذا لم تقترن بقمار ولا بحرام ولم تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وخصوصاً فى المناسبات السارة كالأعراس والأعياد وأذن للحبشة أن يلعبوا فى مسجده بالحراب وسمح لزوجه عائشة أن تنظر إليهم حتى اكتفت .
وقد راعى الإسلام فطرة المرأة وواقعها فى حب الزينة وعمق الرغبة فى التجمل فأباح لها بعض ما حرمت على الرجال كالتحلى بالذهب ولبس الحرير .
ومن واقعية الإسلام : أنه قدر الضرورات – التى تعرض للإنسان وتضغط عليه – حق قدرها ، فرخص فى تناول المحرمات على قدر ما توجب الضرورة وقرر فقهاء الشريعة : أن الضرورات تبيح المحظورات ، استناداً إلى ما جاء فى القرآن عند ذكر الأطعمة المحرمة من مثل قوله تعالى "(إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه ، إن الله غفور رحيم ).
ومن واقعية الشريعة : أنها عرفت ضعف الإنسان أمام كثير من المحرمات ، فسدت الباب إليها بالكلية ، ولهذا حرمت قليلها وكثيرها كما فى الخمر ،لأن القليل يجر إلى الكثير ، كما أنها عدت ما يوصل إلى الحرام حراماً ، فكان تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية إغلاقاً لباب قد تهب منه رياح الشر فلا يستطاع صدها . ومثل ذلك النظر بشهوة إلى الجنس الآخر ، فإن العين رسول القلب والنظرة المشتهية بريد الفتنة .
ومن واقعية الإسلام : أنه راعى قوة الدوافع الجنسية لدى الإنسان فلم يطرحها ولم ينظر إليها باستخفاف ولا باستقذار كما فعلت بعض الملل والنحل ولم يرض للإنسان أن يقاد من غرائزه وحدها ،كما فعلت بعض الفلسفات . فشرعت إشباع الدافع الجنسية بطريقة نظيفة تضمن بقاء الإنسان وارتفاع الإنسان عن الحيوان وذلك بتشريع "نظام الزواج" .
وانطلاقاً من هذه النظرة الواقعية للحياة والإنسان ، كانت إباحة تعدد الزوجات كما شرعه الإسلام فما دام فى الزوجات من يعتريها المرض ويطول ومن تمتد بها الدورة الشهرية إلى ثلث الشهر أو أكثر ومن ترغب عن الرجل ولا تقبل عليه إلا بصعوبة وما دام الرجال لا يستطيعون التحكم فى غرائزهم فلماذا لا نتيح لهم طريق الزواج الحلال فى العلانية والنور بدل البحث عن الحرام فى الخفاء والظلام ؟!
وإذا كان من النساء من ابتليت بالعقم ومن الرجال من يكون قوى الرغبة فى الإنجاب فلماذا لا نتيح له تحقيق رغبته فى الولد بالزواج من امرأة أخرى ولود بدل كسر قلب الأولى بالطلاق أو تحطيم رغبة الرجل بتحريم الزواج الثانى عليه .
وإذا كان عدد الصالحات للزواج من النساء أكثر من عدد القادرين عليه من الرجال بصفة عامة فليس أمام العدد الزائد إلا واحداً من ثلاثة احتمالات :
أن تمضى الفتاة عمرها فى بيت أهلها عانساً محرومة من حقها فى إشباع عاطفة الزوجية وعاطفة الأمومة وهى عواطف فطرية غرسها الله فى كيانها لا تملك لها دفعاً .
أو البحث عن متنفس غير مشروع من وراء ظهر الأسرة والمجتمع والأخلاق .
أو الزواج من رجل متزوج قادر على إحصانها واثق من العدل بينها وبين ضرتها.
أما الاحتمال الأول ففيه ظلم كبير لعدد من النساء بغير جرم اقترفته فإنهن لم يجئن إلى الحياة برضاهن .
والاحتمال الثانى جرم فى حق المرأة وفى حق المجتمع وفى حق الأخلاق وهو للأسف ما سار عليه الغرب ، فقد حرم تعدد الزوجات وأباح تعدد الصديقات والعشيقات . أى أن الواقع فرض عليهم التعدد . ولكنه تعدد لا أخلاقى ولا إنسانى ، لأن الرجل يقضى من ورائه وطره وشهوته دون أن يلتزم بأى واجب أو يتحمل أية تبعة ، تأتى نتيجة لهذا التعدد .
أما الاحتمال الثالث فهو وحده الحل العادل والنظيف والإنسانى والأخلاقى وهو الذى جاء به الإسلام .
ومن واقعية الشريعة إباحتها للطلاق عند تعذر الوفاق بين الزوجين . هذا مع تعظيم الإسلام لشأن العلاقة الزوجية واعتبار هذا الرباط
ميثاقاً غليظاً) وجاء فى الحديث :"أبغض الحلال إلى الله الطلاق" .
ولقد أرغم الواقع المسيحية المعاصرة على الاعتراف بحق الطلاق برغم التحريم الغليظ فى الإنجيل وبرغم الحملات المسعورة التى طالما شنتها قوى التبشير دهراً طويلاً على الإسلام الذى أباح الطلاق فإذا هم يضطرون اضطراراً لإباحته إلى حد التوسع والإسراف المرذول وإذا آخر القلاع المسيحية المتشددة فى هذا الجانب تسقط أخيراً وتعلن إباحة الطلاق وذلك فى روما الكاثوليكية التى لا يجيز مذهبها الدينى الطلاق لعلة ما ولو كانت الخيانة الزوجية السافرة :الزنا .
وانتصرت شريعة الخالق على أوهام الخلق .
ولم يجئ فى القرآن والسنة ما جاء فى الإنجيل من قول المسيح:"أحبوا أعداءكم .. باركوا لاعنيكم .. من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر .. ومن سرق قميصك فأعطه إزارك".
فقد يجوز هذا فى مرحلة محدودة لعلاج ظرف خاص ولكنه لا يصلح توجيهاً عاماً خالداً لكل الناس فى كل عصر وفى كل بيئة وفى كل حال ، فإن مطالبة الإنسان العادى بمحبة عدوه ومباركة لاعنه قد يكون شيئاً فوق ما يحتمله ولهذا اكتفى الإسلام بمطالبته بالعدل مع عدوه
ولا يجرمنكم شنأن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى).
ولهذا تجلت واقعية الإسلام حين شرع مقابلة السيئة بمثلها بلا حيف ولا عدوان فأقر بذلك مرتبة العدل ودرء العدوان ولكنه حث على العفو والصبر والمغفرة للمسئ ، على أن يكون ذلك مكرمة يرغب فيها ،لا فريضة يلزم بها . وهذا واضح فى مثل قوله تعالى
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ).
ومن واقعية الشريعة فى المجال الإجتماعى والاقتصادى : أنها اعترفت بالدافع الفطرى الواقعى الأصيل فى نفس الإنسان:واقع حب التملك فأقرت مبدأ الملكية الفردية وما يترتب عليه من حق التصرف فى الملك وحق الإرث له . ولكنها لم تنس واقعاً آخر هو مصلحة المجتمع وحقوقه وحاجات الفئات الضعيفة من أبنائه . فلهذا قيدت هذه الملكية بقيود شتى : فى اكتساب المال وفى تنميته وفى الاستمتاع به وفى التصرف فيه وأوجبت فيه حقوقاً لله وللناس ، الزكاة أولها وليست هى آخرها كما يتوهم كثيرون .
ولم يوجب الإسلام على من يريد الدخول فيه أن يتخلى عن ثروته وأمور معيشته كما يحكى الإنجيل عن المسيح أنه قال لمن أراد اتباعه :"بع مالك واتبعنى " ! ولا قال القرآن ما قال الإنجيل :"إن الغنى لا يدخل ملكوت السماوات حتى يدخل الجمل فى سم الخياط "!
بل راعى الإسلام حاجة الفرد والمجتمع إلى المال فاعتبره قواماً للحياة وأمر بتنميته والمحافظة عليه وامتن القرآن بنعمة الغنى والمال فى غير موضع وقال الله لرسوله
ووجدك عائلاً فأغنى ). وقال - صلى الله عليه وسلم - :"نعم المال الصالح للرجل الصالح "..
ومن دلائل الواقعية فى الشريعة الإسلامية أنها - مع حرصها البالغ على الوصول إلى المثل الأعلى والوجه الأكمل فى تطبيق أحكامها –لا تغمض عينيها عن الواقع العملى الذى يعيشه الناس ، محلقة فى مثالية لا وجود لها بل نجدها تنزل إلى أرض الواقع لتكيف أحكامها العرفية تبعاً له حتى لا تهدر مصالح العباد وتعطل مسيرة الحياة ، ولذلك أمثلة كثيرة :
منها: أن الواجب هو عزل ولى الأمر الفاجر الجائر ، ولكن الفقهاء أجازوا الإبقاء عليه إذا كان عزله وخلعه يؤدى إلى فتنة أكبر ، ارتكاباً لأخف الضررين وتفويتاً لأدنى المصلحتين ولهذا كان من قواعدهم التى أصلوها : الضرر يزال ولكن قيدوها بقاعدة : الضرر لا يزال بالضرر وقاعدة : الضرر الأدنى لا يزال بالضرر الأعلى .
ويدخل فى هذا : تغيير المنكر بالقوة إذا أدى إلى منكر أكبر منه .
ومنها : أن الأصل فى الشريعة أن تكون الإمامة - أى رئاسة الدولة - بالاختيار والبيعة ، تطبيقاً لمبدأ الشورى ومع هذا أجازت الشريعة إمامة المتغلب بالقوة منعاً للفتنة وسداً لباب الفوضى وحتى لا تتعطل أمور الناس وقد قيل : إمام غشوم خير من فتنة تدوم .
ومنها: أن الأصل فى كل من الإمام والقاضى أن يكون فقيهاً مجتهداً قادراً بنفسه على استنباط الأحكام من أدلتها ، ولكن لما غلب التقليد وسادت المذهبية الضيقة ، أجازوا تولية المقلد فى منصبى الإمامة والقضاء .
هذا هو الإسلام وهذه هى واقعيته فى كل مجال من المجالات : لا يكلف الناس شططاً ولا يرهقهم عسراً ولا يجعل عليهم حرجاً ، يحاول أن يرقى بهم ليصعدوا ويرتفعوا ولكنه لا يهملهم إذا هبطوا ، إنه يريدهم أصحاء أقوياء ، ولكنهم إذا مرضوا عالجهم وساعدهم حتى يشفوا وينهضوا .
إنه منهج الفطرة ، منهج الله ، الذى يتعانق فيه الواقع والمثال